حاولتُ دائماً أن تقوم العلاقة بيني وبينه على مبدأ الثّقة، في كلّ موقفٍ أو حدثٍ كنتُ أسعى لبناءِ أساسٍ صلب متين تصعدُ عليه أبنيةُ أحلامنا الواسعة، وتمتدّ عالياً نحو الغمام، فلا أسمح أن تقوّض أو تتهاوى، ليس لكبيرِ ثقةٍ بنفسي، وإنما فيما أغرسُ في قلبه الصّغير ..
منهمكةٌ أنا في أعمالِ المنزلِ أكثر من أيّ يوم، عالقة في مسؤوليات الأم، وما يتوجب عليها أن تؤدّيه بشكلٍ فعلي، بعيداً عن الادعاءات التي قد تتشدّق بها الأمهات كلما قدّمن خدمة لصغارهن.. أتاني يسأل ..
- أميّ .. هل للسّفينة عجلات ؟ !
لم أستطع النظر في تلك البراءة الطاغية على وجهه لحظة السّؤال لانشغالي الشديد، لكنني تخيّلتها لاحقاً وندمتُ لأني حرمتُ نفسي تأمل نجم الثّقة يلمع في عينيه..
واعتبرته سؤالاً عابراً، مثل مئاتِ أسئلة استفهاميّة واستكشافيّة يسألها طفل في السادسة كل يوم وليلة، فأجيبُ بما أعلم، ولا أتحرج أن أخبره بأنني لا أعلم .. فأتى جوابي سريعاً دون وعي أو إدراك ..
- أجل .. ربما .. للسفينة عجلات ..
لستُ أدري من أين أتتني هذه الفكرة ؟
هل كان حلماً قد رأيته ذات ليلة، يشبه أحلام الصّغار في كون الأحصنة تطيرُ ولها أجنحة؟ أم شاهدتُ ذلك في فيلمٍ وثائقيّ والتصقت تلك الصّورة في ذاكرتي كما تعلق الصّور الفوتوغرافيّة القديمة، أم أنه خيالُ كاتبة قادها لأن تجعل للسّفن عجلات، كما تصنع لشخصيّات رواياتها لحماً ودماً ووظيفةً وطباعاً لدرجة تحملها على تصديقها والإيمان بوجودها حقيقة .. لم أستطع لمسَ الحقيقة بيدي حين أجبت .. لكن السؤال بدا عابراً وبسيطاً لدرجة لا تبعث على كثير من اهتمام ..
حتى أتى في اليوم التالي إلى حضني، فأهديته عناقاً وقبلة، وسألني بنبرة إيمانٍ وتصديق، ورغبة واضحة بتأكيد أمرٍ مُسلّم به ..
- أمي .. هل للسّفينة عجلات ؟ أصدقائي لا يصدّقون، قلت لهم أن للسفن عجلات، فاتّهموني بالكذب ..
عاد لي الوعي ليختلط بالخيال، كاختلاط الخيط الأبيض بالخيط الأسود من الفجر، فأجبتُ هذه المرّة بثقة أقل ..
- أجل يا حبيبي .. قُل لهم أن هنالك سفناً بعجلات، وأخرى ليس لها عجلات ..
وقلتُ في ذاتي مُطمئنة :
- احتمالٌ واردٌ ما تقولين، سيجيبهم وينتهي الأمر ..
ومرّت أسابيعُ قليلة، لأجد صغيري غارقاً في حل فروضه، بيده الصّغيرة يكتبُ اسمي، وقد تعلم حرفاً جديداً من حروفِ الهجاء، فراح يجمّله بخطه الصغير المتألق بالقلم الرّصاص .. وليصعقني بكلماتٍ لم أتوقعها في حياتي..
- أمي .. أنا أثقُ دائماً، وفي كل وقتٍ أنّ ما تقوليه صواب، وقد أخبرتُ أصدقائي أن بعض السّفن لها عجلات، وأخبرتهم أن أمي هي من قالت هذا، وبأني أصدقها، فأمي أبداً لا تكذب، فقال لي صديقي حسن :
- - تباً لك ولأمك، السّفن ليس لها عجلات !
اهتزّ شيءٌ ما في وجداني، كسفينة في بحرٍ هائج، في يومٍ عاصف، وقد شاهدتُ صُنّاع السّفن في المدن السّاحليّة يشيدونها، كما تابعت في السّابق أفلاماً حول صناعة السّفن، ولم تكن ثمّة عجلات !
أيّة فكرة غبيّة أقنعتِ بها صغيركِ أيتها الكاتبة ذات الخيالِ المُجنّح؟ وأيّة صورة لكِ ستهتزّ في ضمير الصّغير حين يعرف تلك الحقيقة، وقد تحوّل الأمر إلى قضيّة كبرى .. ببساطة سيقولها دون تردد ..
- كانت أمي تكذب ..
لقد امتلكتِ عقل طفلٍ وقلبه، ولم تدركي أن المرء حين يمتلكُ هذه الأشياء في الطفل فقد امتلك العالم بأسره، وها أنتِ تقومين بفعلِ التدمير ..
اختلطت في نفسي مشاعرُ الحب العميق لهذا الكائن الجميل الذي منحني ثقته، ولم أترك لنفسي متسعاً للوم، فقد اتخذتُ قراراً حاسماً بالدّفاع عنه، حتى لو دفعني الأمر لأن أخترع سفينة بعجلات، سأخترعها، وأنقش اسم صغيري على حافّتها، لأربح مجدداً ابتسامته وثقته بأمه ..
وفيما هو يتابع أفلام الكارتون ويبتسم، تركتُ كلّ أعمالي ورائي، وجلستُ أبحثُ عبر الإنترنت عن السفينة العجيبة التي سكنت خيالي .. ومضت دقائق البحثِ طويلة، كمن يفتّش عن جزيرة مغمورة بمياه المحيط، حتى اقتربتُ من اليأس، وقد خرجتُ بمعلومة تفيد أن في السّفن عامّة عجلة واحدة، هي عجلة القيادة فحسب !
تخيلتُ نظرة صغيري وأنا أخبره هذه المعلومة العجيبة، ولسان حاله يقول :
- تستخفّين بعقلي يا أمي دون شك، لمَ لا تعترفين أنكِ على خطأ، وتنتهي المشكلة؟!
كان تخيّل تلك النظرة أمراً موجعاً بشعاً، أمدّني بمزيد رغبة في البحث، وطاقة تجددت للتفتيش عن سفينتي ..
بحثاً في مواقع كثيرة لصناعة السّفن، انتقالاً إلى تطوّرها عبر العصور .. والتقطت عدسة عيني كلمة ( عجلات )
دون أملٍ كبير عُدت إلى الصّفحة .. وشعرتُ أنني ألتقي طيور النورس فتخبرني عن وصولي لجزيرتي المفقودة .. وابتسمتُ منتصرة وأنا أطلبُ من صغيري تهجئة الخبر، ولأقوم بطباعته له :
" تطورت صناعة السّفن في العصر البيزنطي، وتم إمداد السّفينة بعجلات دفع للإمام لتزيد من قوّتها وتقدمها في الماء ..
كما احتاجت صناعة السفن القديمة إلى دهن الحوت، ليمنع تسرب الماء عبرها، لكيلا تغرق ومواد أخرى مثل ..."
يومها أيقنتُ أنني أحملُ في سفينتي كنزاً رائعاً، يستحقُ أن أبحر به بين أمواج الحياة، ولن أسمح أبداً للماء أن يتسرب، ولا للسّفينة أن تغرق، لأنني ببساطة .. أمٌّ تُحب !
منهمكةٌ أنا في أعمالِ المنزلِ أكثر من أيّ يوم، عالقة في مسؤوليات الأم، وما يتوجب عليها أن تؤدّيه بشكلٍ فعلي، بعيداً عن الادعاءات التي قد تتشدّق بها الأمهات كلما قدّمن خدمة لصغارهن.. أتاني يسأل ..
- أميّ .. هل للسّفينة عجلات ؟ !
لم أستطع النظر في تلك البراءة الطاغية على وجهه لحظة السّؤال لانشغالي الشديد، لكنني تخيّلتها لاحقاً وندمتُ لأني حرمتُ نفسي تأمل نجم الثّقة يلمع في عينيه..
واعتبرته سؤالاً عابراً، مثل مئاتِ أسئلة استفهاميّة واستكشافيّة يسألها طفل في السادسة كل يوم وليلة، فأجيبُ بما أعلم، ولا أتحرج أن أخبره بأنني لا أعلم .. فأتى جوابي سريعاً دون وعي أو إدراك ..
- أجل .. ربما .. للسفينة عجلات ..
لستُ أدري من أين أتتني هذه الفكرة ؟
هل كان حلماً قد رأيته ذات ليلة، يشبه أحلام الصّغار في كون الأحصنة تطيرُ ولها أجنحة؟ أم شاهدتُ ذلك في فيلمٍ وثائقيّ والتصقت تلك الصّورة في ذاكرتي كما تعلق الصّور الفوتوغرافيّة القديمة، أم أنه خيالُ كاتبة قادها لأن تجعل للسّفن عجلات، كما تصنع لشخصيّات رواياتها لحماً ودماً ووظيفةً وطباعاً لدرجة تحملها على تصديقها والإيمان بوجودها حقيقة .. لم أستطع لمسَ الحقيقة بيدي حين أجبت .. لكن السؤال بدا عابراً وبسيطاً لدرجة لا تبعث على كثير من اهتمام ..
حتى أتى في اليوم التالي إلى حضني، فأهديته عناقاً وقبلة، وسألني بنبرة إيمانٍ وتصديق، ورغبة واضحة بتأكيد أمرٍ مُسلّم به ..
- أمي .. هل للسّفينة عجلات ؟ أصدقائي لا يصدّقون، قلت لهم أن للسفن عجلات، فاتّهموني بالكذب ..
عاد لي الوعي ليختلط بالخيال، كاختلاط الخيط الأبيض بالخيط الأسود من الفجر، فأجبتُ هذه المرّة بثقة أقل ..
- أجل يا حبيبي .. قُل لهم أن هنالك سفناً بعجلات، وأخرى ليس لها عجلات ..
وقلتُ في ذاتي مُطمئنة :
- احتمالٌ واردٌ ما تقولين، سيجيبهم وينتهي الأمر ..
ومرّت أسابيعُ قليلة، لأجد صغيري غارقاً في حل فروضه، بيده الصّغيرة يكتبُ اسمي، وقد تعلم حرفاً جديداً من حروفِ الهجاء، فراح يجمّله بخطه الصغير المتألق بالقلم الرّصاص .. وليصعقني بكلماتٍ لم أتوقعها في حياتي..
- أمي .. أنا أثقُ دائماً، وفي كل وقتٍ أنّ ما تقوليه صواب، وقد أخبرتُ أصدقائي أن بعض السّفن لها عجلات، وأخبرتهم أن أمي هي من قالت هذا، وبأني أصدقها، فأمي أبداً لا تكذب، فقال لي صديقي حسن :
- - تباً لك ولأمك، السّفن ليس لها عجلات !
اهتزّ شيءٌ ما في وجداني، كسفينة في بحرٍ هائج، في يومٍ عاصف، وقد شاهدتُ صُنّاع السّفن في المدن السّاحليّة يشيدونها، كما تابعت في السّابق أفلاماً حول صناعة السّفن، ولم تكن ثمّة عجلات !
أيّة فكرة غبيّة أقنعتِ بها صغيركِ أيتها الكاتبة ذات الخيالِ المُجنّح؟ وأيّة صورة لكِ ستهتزّ في ضمير الصّغير حين يعرف تلك الحقيقة، وقد تحوّل الأمر إلى قضيّة كبرى .. ببساطة سيقولها دون تردد ..
- كانت أمي تكذب ..
لقد امتلكتِ عقل طفلٍ وقلبه، ولم تدركي أن المرء حين يمتلكُ هذه الأشياء في الطفل فقد امتلك العالم بأسره، وها أنتِ تقومين بفعلِ التدمير ..
اختلطت في نفسي مشاعرُ الحب العميق لهذا الكائن الجميل الذي منحني ثقته، ولم أترك لنفسي متسعاً للوم، فقد اتخذتُ قراراً حاسماً بالدّفاع عنه، حتى لو دفعني الأمر لأن أخترع سفينة بعجلات، سأخترعها، وأنقش اسم صغيري على حافّتها، لأربح مجدداً ابتسامته وثقته بأمه ..
وفيما هو يتابع أفلام الكارتون ويبتسم، تركتُ كلّ أعمالي ورائي، وجلستُ أبحثُ عبر الإنترنت عن السفينة العجيبة التي سكنت خيالي .. ومضت دقائق البحثِ طويلة، كمن يفتّش عن جزيرة مغمورة بمياه المحيط، حتى اقتربتُ من اليأس، وقد خرجتُ بمعلومة تفيد أن في السّفن عامّة عجلة واحدة، هي عجلة القيادة فحسب !
تخيلتُ نظرة صغيري وأنا أخبره هذه المعلومة العجيبة، ولسان حاله يقول :
- تستخفّين بعقلي يا أمي دون شك، لمَ لا تعترفين أنكِ على خطأ، وتنتهي المشكلة؟!
كان تخيّل تلك النظرة أمراً موجعاً بشعاً، أمدّني بمزيد رغبة في البحث، وطاقة تجددت للتفتيش عن سفينتي ..
بحثاً في مواقع كثيرة لصناعة السّفن، انتقالاً إلى تطوّرها عبر العصور .. والتقطت عدسة عيني كلمة ( عجلات )
دون أملٍ كبير عُدت إلى الصّفحة .. وشعرتُ أنني ألتقي طيور النورس فتخبرني عن وصولي لجزيرتي المفقودة .. وابتسمتُ منتصرة وأنا أطلبُ من صغيري تهجئة الخبر، ولأقوم بطباعته له :
" تطورت صناعة السّفن في العصر البيزنطي، وتم إمداد السّفينة بعجلات دفع للإمام لتزيد من قوّتها وتقدمها في الماء ..
كما احتاجت صناعة السفن القديمة إلى دهن الحوت، ليمنع تسرب الماء عبرها، لكيلا تغرق ومواد أخرى مثل ..."
يومها أيقنتُ أنني أحملُ في سفينتي كنزاً رائعاً، يستحقُ أن أبحر به بين أمواج الحياة، ولن أسمح أبداً للماء أن يتسرب، ولا للسّفينة أن تغرق، لأنني ببساطة .. أمٌّ تُحب !
بقلم الكريمة / نور الجندلي